معهد الخوئي | Al-Khoei Institute

معهد الخوئي | Al-Khoei Institute
  • الإمام الخوئي
  • المكتبة المرئية
  • المكتبة الصوتية
  • المكتبة
  • الاستفتاءات

الفقه الاسلامي بين الاصاله و الحداثه

الدكتور طه جابر العلواني
  • ٧٥٧٠
  •  

"الفقه الإسلامي بين الأصالة والحداثة"


بقلم


أ. د. طه جابر العلواني


رئيس جامعة قرطبة


وأستاذ كرسي الإمام الشافعي للدراسات الأصوليّة


الولايات المتحدة – فرجينيا


 


بسم الله الرحمن الرحيم


«الفقه الإسلاميّ بين الأصالة والحداثة»


الحمد لله رب العالمين نستغفره ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبد الله ورسوله – صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.


ثم أمّا بعد؛ فإنّ العنوان المذكور في أعلى هذا البحث لم يكن من اختياري، بل هو عنوان اختارته اللجنة المنظّمة لهذا المؤتمر، وطلبت مني إعداد بحث وجيز فيه لا يزيد عن سبع صفحات.


ومع ما ذكرت فإن تقديري لمنظمي هذا اللقاء يجعلني أحاول تقديم ورقة تستجيب لما اقترحوه وتنبه إلى ضرورة معالجة هذا الموضوع في المستقبل بشكل أعمق وأوسع.


إنّ «فقه الأصالة» الذي يستحق هذا الوصف هو الفقه في الدين الذي جاء به كتاب الله تعالى في قوله عز وجل: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ (براءة:122)؛ أي: يطلبون فقه الدين والتفقه فيه ليصبح «فقه التديُّن به» «عقيدة وشريعة ومسئوليَّة وسلوكًا ومنهاجًا» واضحًا بيّنًا لديهم بحيث يعبدون الله -تبارك وتعالى- على علم دقيق وفقه عميق وفهم شامل. ولذلك اعتبر بعض العلماء هذا النوع من الفقه «الفقه الأكبر». وللإمام أبي حنيفة النعمان «70 – 150هـ» كتاب مطبوع يحمل هذا الاسم «الفقه الأكبر».


وهذا الفقه يمكن تتبّعه في إطار مسيرة أجيال الأمَّة؛ وأجيال الأمّة بالنسبة لهذا الفقه الأكبر تنقسم إلى:




1. جيل التلقي: وهو الجيل الذي عاش عصر رسول الله  -صلى الله عليه وآله وسلّم- وهو يتلقَّى القرآن المجيد من لدن حكيم خبير، ويقوم بتأويله وتفعيله وتطبيقه وتلاوته وتعليمه، وتزكيتهم به. وهذا بالنسبة لمن كانوا معه في مكة ثم في المدينة المنوّرة. فلم يكن للناس في هذا الجيل من فقه إلا فقه القرآن المجيد باعتباره المصدر المنشئ للأحكام والكاشف عنها. وفقه التأويل والتفعيل والتطبيق النبويّ الذي أخذ فيما بعد مصطلح «السنَّة».




وجيل كبار الصحابة وآل البيت بعد وفاة سيدنا رسول الله  -صلى الله عليه وآله وسلّم-  كان امتدادًا «لجيل التلقي» فلم يحدث تغيير يذكر، وعالجوا المستجدات التي حدثت وهي قليلة جدًا بذات المنهج، واستمر الحال على ذلك حتى استشهاد الإمام علي -كرم الله وجه ورضي عنه وأرضاه-. وفي (سنة 40 هـ) بدأ مصطلح الفقه يشيع ويجري تداوله بين جيل صغار الصحابة وكبار التابعين الذين وجدوا في تلك المرحلة، ونجد في طبقات ابن سعد وغيرها من كتب التاريخ إشارات لذلك، وفي تلك المرحلة كان جيل التلقي والجيل الذي تأثر به لا يكثرون السؤال ولا القيل والقال في القضايا الفقهيّة، فلم يبرز شيء مما عرف «بالفقه الافتراضيّ» آن ذاك؛ «فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنَّه قال: ما رأيت قومًا خيرًا من أصحاب رسول الله  -صلى الله عليه وآله وسلّم-، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلّهن في القرآن، منهن  يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ (البقرة:217)، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ (البقرة:222)؛ قال: ما كانوا يسألون إلّا عما ينفعهم. وقال القاسم: إنكم تسألون عن أشياء ما كنّا نسأل عنها وتنقّرون عن أشياء ما كنا ننقر عنها، وتسألون عن أشياء ما أدري ما هي، ولو علمناها ما حل لنا أن نكتمها». أخرجه الدارمي في سننه (1/62) (رقمه 118) وهذه الخاصيّة؛ خاصيّة الاقتصاد في الفقه وعدم التشقيق والتفريع بدأت الأجيال  التالية تفقدها. والخاصية الثانية: أنَّ أصحاب رسول الله  -صلى الله عليه وآله وسلّم-  تأسيًا به عليه الصلاة والسلام كانوا أميل إلى التيسير وأبعد ما يكونون عن التشديد. «فعن عبادة بن نسيّ الكنديّ قال: أدركت قومًا ما كانوا يشددون تشديدكم، ولا يسألون مسائلكم، وفي ذلك كلّه كانوا يلتزمون الأدب الذي أدبهم رسول الله  -صلى الله عليه وآله وسلّم- به". 


2.   أمّا الجيل الثاني الذي نشأ بعد (سنة 40 هـ) فهو جيل بدأ يهتم برواية الآثار والأخبار والسنن دون أن يفقد خصائص جيل التلقي؛ بل كانوا يعملون على أن يضيفوا لها ظنًّا منهم أنّهم بذلك يلبون حاجات الناس، خاصّة الشعوب التي دخلت للإسلام حديثًا من القضايا الفقهيّة، فصارت الروايات والآثار تأخذ مزيدًا من الاهتمام وتشكل ما نسميه في عصرنا هذا بالسوابق؛ سوابق الفتوى، وكانت تلك الروايات والآثار تروي ما كان متداولًا في عصر رسول الله  -صلى الله عليه وآله وسلّم- وفي الوقت نفسه تضيف ما رواه قراء الصحابة وآل البيت، وعددهم على ما ذكر ابن حزم ثم ابن القيم في أعلام الموقعين حوالي خمس وستين ومائة  من القراء الذين كان الناس يتداولون في ذلك الجيل جيل الرواية ما رووه من آثار أو فتاوى أو ما إلى ذلك، فتكون الإضافة التي حدثت هي إضافة الرواية عن أولئك القراء المذكورين، وهذه الرواية لم تكن من الكثرة كما حدث في الجيل التالي الذي استحق أن يطلق عليه جيل الرواية حيث شاعت الرواية وبدأ تدوين المرويّات على عهد عبد العزيز والد عمر بن عبد العزيز حين كان واليًا على مصر حيث دوّن أو أمر بتدوين بعض المرويّات ولما ولي ولده الخلافة (سنة 99 هـ) أمر وبشكل رسميّ بجمع الآثار والأخبار والمرويّات بشكل واسع جعل كثيرًا من الباحثين يطلقون على ذلك الجيل جيل الرواية، فجمعت الروايات والأخبار عن القراء وغيرهم، ولم يكونوا في بادئ الأمر يميزون بين المرويّات، فقد تأتي مرويّات عن رسول الله  -صلى الله عليه وآله وسلّم-  وإلى جانبها مرويّات وآثار عن الصحابة، وكان المتصدون للفتوى يواجهون المستجدات بتلك المرويّات، ويقولون إذا ما جاءتهم واقعة استفتاء: أمر عمر بكذا، أو أفتى أبو بكر بكذا، أو عليًا بكذا، إذا لم يجدوا ما يروه عن رسول الله  -صلى الله عليه وآله وسلّم-  إلى أن بدأ تمييز هذه المرويّات وفصل الأحاديث والأخبار المرفوعة عن آثار الصحابة والتابعين، والتمييز بينها بشكل ملائم، واستمر الحال كذلك وبرز  فقه مالك وجعفر وأبي حنيفة والأوزاعيّ وربيعة وأمثالهم، وعرف في أقاليم الإسلام المختلفة أناس يفتون الناس استنباطًا من الكتاب أو من السنن المرويّة عن رسول الله  -صلى الله عليه وآله وسلّم- أو من فتاوى معاصريه من صحابة وآل بيت مما جعل بعض المذاهب يتبنون القول بحجيّة قول الصحابيّ،  والإمام مالك تبنى عمل أهل المدينة وبرزت قضايا التعليل والاستنباط والاستدلال بأشكال محدودة وصارت تدور بين العلماء وعلى ألسنتهم استمر الحال  حتى بدأ جيل الفقه بالتشكل، وهو الجيل الذي بدأ ببعض الأسماء الكبيرة مثل مالك وجعفر الصادق وأبي حنيفة ثم من جاء بعدهم كالإمام محمد الباقر والإمام الشافعي، هؤلاء بدءوا يشكلون الجيل الذي عرف بجيل الفقه وكان فيهم عدد من المجتهدين الذين يستنبطون الأحكام من الكتاب الكريم وفق مناهج وضعوها وقواعد سنوها لأنفسهم، ويحددون مواقفهم وطرق استنباطهم من السنن وكيفيّة إثباتها ثم الاستدلال بها، وهذا الجيل قد سيطرت مذاهبه وأصوله ومنتجاته الفقهيّة على الأجيال التالية بحيث طرحت قضيّة التقليد؛ تقليد أولئك الأئمّة الفقهاء الذين ثبروا الأدلة وتتبعوا المسائل وبوبوا الفقه إلى أبواب، فصار لكل منهم مدرسة تتميّز عن المدارس الأخرى، وبقى هذا الأمر سائدًا لدى المذاهب السنيّة إلى أن جاءت أجيال تبنت مبدأ التقليد وهو في عرفهم قبول قول الغير بلا حجّة إذ كانوا يكتفون بالثقة بذلك الغير، أمّا مذاهب الفقه لدى الشيعة إماميّة وزيديّة فقد نحت منحًا آخر دون كبير اختلاف في الأصول، فعصر النص اعتبر ممتدًا حتى الغيبة الكبرى ولم تأخذ مذاهب الشيعة بحجيّة الإجماع إلا إذا كان الإمام المعصوم بين المجمعين ولم تأخذ برواية كثير من الصحابة لعدم قولها بعموم العدالة فيهم ووضعت شروطًا خاصّة لقبول الأخبار ولتعديل وتجريح الرجال وما إلى ذلك.


بالنسبة للعصر الآخر يمكن أن نسميه بعصر التقليد أو طور التقليد، وهو العصر الذي شاع في المحيط السنيّ القول فيه بأنَّه ما ترك السابق للاحق شيء، وأنَّ التقليد للأئمّة الثابرين هو سبيل الخلاص من الوقوع بأقوال لا دليل عليها أو لا سند لها،  واستمر مبدأ التقليد سائدًا في العالم السنيّ للأئمّة الأربعة حتى عصرنا هذا. وأمّا في المحيط الشيعيّ فإنّ ما ذهب إليه الأئمّة من عدم جواز تقليد المجتهد الميت جعل مراجع التقليد دائمًا من الأحياء مما أضاف إلى الفقه الشيعيّ شيئًا من المرونة والقدرة في مواجهة المستجدات الواقعة الحادثة. إلى هنا نستطيع أن نقول بأنّنا قد أعطينا فكرة سريعة وعامّة عما يمكن تسميته «بفقه الأصالة»


وأمّا ما يسمى: «بفقه الحداثة» فللحداثة تعريفها الاصطلاحيّ لدى المعاصرين من المفكرين وهي: تُطلق على مجموعة الجهود التي قام بها أدباء ومفكّرون وفنانون وعلماء وفلاسفة أوربيّون أو سواهم, بحيث أدّت جهودهم إلى وضع خط فاصل بين الأحداث التاريخيّة لأوربّا تم بمقتضاه التأسيس للعقلانيَّة الأوربيَّة, في القرن السادس عشر وما تلاه والتخلصّ من الهيمنة الكنسيَّة, أو الاستلاب الكنسيّ اللاهوتيّ للعقل الأوربيّ.() 


والحداثة, كما يعرِّفها الكثيرون اليوم: «وعيٌ نقيضٌ يقوم على رفض أنماط الحساسيَّة والرؤية والفعل السائدة, ودحضها, وهدم منظومتها الفلسفيّة والجماليَّة من أساسها, بغرض تأسيس حريَّة حقيقيّة تتجاوز المقّدس والمدنّس معًا؛ لتأكيد ضرورتها وسيادتها. 


 وهذه الحداثة لا تعوقها عوائق من نوعٍ ما؛ إذ تتبنَّىٰ كلّ مَا من شأنه أنْ يطيح بما يقيِّد من حركتها الفاعلة, وتعتمد على الصدمة والغرابة وتقويض العلاقات المتعارف عليها جميعًا, وتغازل السرَّ الغنوصيّ للذة والجسد, والانفتاح على المجهول, ولكنَّها تحتفظ دومًا بعداءٍ عميقٍ للميتافيزيقيا والروح. ولعلّ السادة المنظمين لمؤتمرنا هذا لم يقصدوا الحداثة بهذا المعنى؛ بل قصدوا هذا الجيل الذي نعيش فيه والعصر الذي نحيا فيه والتحديات التي تواجهنا، وهنا سوف أقدم عناوين سريعة لألّا أتجاوز ما هو محدد من الصفحات والمساحة لكل بحث. فأقول: أول تحدٍ واجهنا بعد احتكاكنا بالحضارة الغربيّة هو التحدي في تحكيم القوانين الوضعيّة وموقف الإسلام منه، وقد اختلفت فتاوى العلماء عبر هذه المرحلة اختلافات شديدة حول ما إذا كان تجاوز الشريعة الإسلاميّة وتحكيم القوانين الوضعيّة يؤدي إلى تكفير القائمين على الحكم في بلاد المسلمين التي عمّتها هذه الظاهرة، وهل هذا التكفير ينسحب على أفراد المكونين للسلطة أو على أصحاب القرار وحدهم؟ وهل يعد من الكفر الأكبر أو الأصغر؟ وما زالت الاختلافات حول هذا الموضوع شديدة في دار الإسلام.


التحدي الثاني: هل تعد المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة بناءً على تطبيق اللبراليّة والعلمانيّة والقوانين الوضعيّة مجتمعات جاهليّة أو تبقى محتفظة بصفتها الإسلاميّة ويعد ذلك انحراف؟ وإذا سمحنا باستعمال مصطلح الجاهليّة هنا، فهل تكون جاهليّة كفر أو جاهليّة معاصي؟


التحدي الثالث: تقسيم الأرض إلى دار إسلام ودار حرب باعتبارات فقهيّة معينة. 


التحدي الرابع: هو الأحكام المتعلقة بمستويات العلاقة بالقيادات السياسيّة التي لا تحكم الشريعة. 


التحدي الخامس: كيف ينظر الإسلام للبرلمان والمجالس النيابيّة في بلدان مسلمة تطبق القوانين الوضعيّة، وهل تعتبر المشاركة في تلك المجالس مشاركة في الحكم بغير ما أنزل الله، أو لا ما تزال كلمة الفقهاء مختلفة في هذا المجال؟ وقد أصبحت الآن أكثر إلحاحًا خاصّة في بلدان مثل العراق ونحوها. ما النظرة الفقهيّة إلى الأجهزة الأمنيّة لحكومات ما تزال بعيدة عن تحكيم الشريعة؟ وما حكم المشاركة في السلطة القضائيّة؟ ما حكم إمامة المتغلب أو الحكومات التي تقوم بانقلابات عسكرية أو نحوها؟ وما قضيّة الولاء والبراء والتحالف مع غير المسلمين والتحالفات السياسيّة بين فئات علمانيّة أو ملحدة أو ما إلى ذلك؟ ما حكم تأسيس البنوك في صياغتها الغربيّة والتعامل معها اقتراضًا وإيداعًا وما إلى ذلك؟ هذه وغيرها من القضايا التي يمكن أن نطلق عليها تحديّات تواجه الفقيه المعاصر، وتقتضي منه المواقف الشرعيّة المبنيّة على الدليل والتعليل والاستنباط والأخذ بالأدلة على أساس مرتبتها الشرعيّة ولإيجاد ثقافة مشتركة بين المسلمين، وتقليل النقاط الخلافيّة أظنّ إنّنا في حاجة إلى لقاءات فقهيّة جماعيّة تشمل فقهاء من جميع المذاهب القائمة في عصرنا هذا من أولئك الذين يمكن أن يكون لهم أهليّة اجتهاد في هذه المسائل والحسم فيها، لأنّني أخشى لو استمر الحال كما هو أن تستمر الخلافات والنزاعات وأن يحرم المسلمون من وحدة الأمّة التي هي أبرز تحدي يواجهنا اليوم، ووحدة الثقافة التي يمكن أن تجتمع عليها كلمة الأمّة، ولعلّ هذه الهيئة الموقرة تبدأ ببرنامج مشترك يهيئ لبحث هذه الأمور بصراحة ووضوح بحوثًا متعمقة مدروسة يأخذ أصحابها في إعدادها الوقت الكافي لكي يأتي القول حاسمًا فيها إن شاء الله تعالى.


وفقكم الله تعالى لما يحبه ويرضاه